في 7 أكتوبر 2023، شهدت إسرائيل واحدة من أكبر الهجمات العسكرية التي تركت تأثيرات نفسية واجتماعية عميقة علی المجتمع الصهيوني. هذا الهجوم، الذي تضمن إطلاق آلاف الصواريخ واقتحام مقاتلي حماس للمستوطنات، أسفر عن مقتل وإصابة المئات. لم يقتصر هذا الحدث علی الآثار العسكرية والأمنية فحسب، بل كانت له أيضًا تداعيات نفسية واجتماعية واسعة. إعلان حالة الحرب من قبل حكومة الاحتلال لأول مرة منذ نصف قرن، كان أحد أبرز مظاهر هذه الصدمات النفسية.
في هذا السياق، نشرت صحيفة "هآرتس" في 23 مايو تقريرًا أثار جدلاً كبيرًا، حيث كشفت أن 10 جنود إسرائيليين انتحروا في الساعات الأولی بعد عملية السابع من أكتوبر. ووفقًا للخبراء، الشعور بالإذلال والهزيمة الذي سيحمله المجتمع الصهيوني من الآن فصاعدًا سيتجاوز جيلاً كاملاً.
هذه الهجمة بالنسبة لإسرائيل كانت بمثابة "11 سبتمبر"، وكما لا تزال الولايات المتحدة تشعر بالإهانة والهزيمة جراء فشلها الاستخباراتي في ذلك الهجوم، فإن إسرائيل ستتحمل هذه الإهانة لسنوات، وسيحمل جنودها العبء النفسي لهذه الهزيمة.
الحرب، بالإضافة إلی الخسائر البشرية والمادية، تترك تأثيرات نفسية هائلة. تُقدّر منظمة الصحة العالمية أن حوالي 10% من الأفراد الذين يواجهون أحداثًا صادمة خلال النزاعات المسلحة يعانون من مشاكل نفسية خطيرة، بينما يُظهر 10% آخرون سلوكيات تعيق قدرتهم علی الأداء الفعّال. الاكتئاب، القلق، والاضطرابات النفسية الجسدية (اضطراب سايكوسوماتي) تعد من أكثر الأعراض الشائعة للحرب.
الدكتور ستيف سوغدن، أخصائي نفسي وعقيد احتياط في الجيش الأمريكي، حدد ثلاث مجموعات عرضة للأذی النفسي بسبب الحرب: المدنيون في مناطق النزاع، الجنود من كلا الجانبين، والأشخاص الذين يشاهدون الحرب عبر وسائل الإعلام.
وأشار سوغدن إلی أن المدنيين في منطقة النزاع قد يختبرون أقل أذی نفسي، لكن هذا الأذی لا يزال ملحوظًا. قد يكون السبب في ذلك هو قدرتهم علی التعامل بسرعة مع وسائل التواصل الاجتماعي ومعالجة مشاعرهم، مما يساعدهم علی التكيف.
كما أشار سوغدن إلی التأثيرات طويلة الأمد للصدمات علی الجنود. تشير الإحصائيات إلی زيادة كبيرة في نسبة المشردين بين المحاربين القدامی الأمريكيين، وهم المجموعة التي تسجل أعلی معدلات الانتحار مقارنة بغيرها. يتعرض الجنود في جميع أنحاء العالم لأحداث صادمة، وهذا يؤدي إلی زيادة المشاكل الطبية، تفكك العائلات، البطالة، وتعاطي المواد المخدرة.
الخدمة العسكرية، بمتطلباتها الخاصة مثل الطاعة، الانضباط، والانفصال عن الأسرة، قد تكون تهديدًا محتملًا للصحة النفسية والجسدية للجنود. هذه الظروف قد تؤدي إلی سلوكيات إيذاء الذات وحتی الانتحار. الأعراض الاكتئابية شائعة خلال التدريبات العسكرية، والفصل عن الأصدقاء والعائلة، إلی جانب مواجهة مواقف قتالية، تدفع الجنود إلی البحث عن استشارات نفسية.
الهجمات التي شنتها "طوفان الأقصی"، بجانب الخسائر، تركت تأثيرات نفسية عميقة علی الجنود الإسرائيليين. المباغتة في منازلهم، ومواجهة مجموعة كانوا قد استهدفوها سابقًا بالضربات الجوية، والشعور بالإذلال الناجم عن الهزيمة، كلها عززت هذه التأثيرات. تشير الدراسات إلی أن 5192 جنديًا إسرائيليًا معاقًا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). العديد من هؤلاء الجنود يحملون الحكومة بقيادة نتنياهو مسؤولية إهمال العناية بهم. ومع فرض الخدمة العسكرية الإلزامية لليهود في إسرائيل، تؤثر الأضرار النفسية الناتجة عن الحروب علی المجتمع بأسره. هذا الوضع، إلی جانب الاشتباكات المتكررة بين إسرائيل وقوات المقاومة في لبنان وفلسطين، يحافظ علی الشعور العسكري في المجتمع الإسرائيلي حتی سن الأربعين، ويضع عبئًا نفسيًا ثقيلًا عليهم.
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة "جيروزاليم بوست" في شهر يونيو تقريرًا نقلًا عن المنظمة الإسرائيلية "نيفجاشيم"، جاء فيه أن الآلاف من الجنود الإسرائيليين العائدين من غزة يعانون من اضطرابات التوتر والقلق ما بعد الصدمة. ووفقًا للمدير التنفيذي لهذه المؤسسة، فإن أكثر من 10,000 جندي احتياطي في الجيش الإسرائيلي قد طلبوا خدمات العلاج النفسي.
وفي تقرير نشرته القناة السابعة الناطقة بالعبرية بتاريخ 10 يوليو، أفادت أن "استنادًا إلی تحليل أُجري من قبل متخصصين، فإن حوالي 40% من الجرحی الذين سيتم إدخالهم إلی المستشفی بحلول نهاية العام قد يعانون من ردود فعل نفسية مختلفة، بما في ذلك القلق، الاكتئاب، التوتر ما بعد الصدمة، ومشاكل في التكيف والتواصل مع المحيط". ووفقًا للقناة، من بين حوالي 70,000 جندي معاق في الجيش الإسرائيلي من جميع الأجهزة العسكرية والأمنية الذين يتلقون العلاج في قسم التأهيل، هناك 9,539 يعانون من ردود فعل ما بعد الصدمة والاضطرابات النفسية.
وسابقًا، ذكر موقع "والا" العبري نقلًا عن معهد السلامة والأمن التابع لوزارة العمل الإسرائيلية أن أكثر من 2,000 جندي من هذا النظام قد أصيبوا بإعاقات منذ بدء حرب غزة. ووفقًا للتقرير، فإن نسبة الجنود الذين يعانون من مشاكل النوم قد ارتفعت من 18.7% في صيف العام الماضي إلی 37.7%، مما يمثل زيادة بنسبة 101%. كما ارتفعت التقارير عن حالات التوتر الشديد أثناء الحرب إلی 43.5%.
هذه الظروف أدت إلی زيادة غير مسبوقة في عدد الجنود الذين يطلبون الخروج من الجيش الإسرائيلي. ووفقًا لتقرير نشرته القناة 12 الإسرائيلية، فإن 900 ضابط برتبة نقيب ورائد قدموا طلبات التقاعد منذ بداية العام الجاري، في حين لم يتجاوز هذا العدد 120 ضابطًا في السنوات السابقة.
أما في المجتمع الإسرائيلي وخارج السياق العسكري، فقد تم الإبلاغ عن تفشي كبير للأمراض النفسية وزيادة الحاجة إلی الرعاية النفسية في وسائل الإعلام الإسرائيلية. ومن بين أبرز التأثيرات الاجتماعية كان موضوع "الهجرة العكسية". ففي الأشهر التي تلت الهجوم، شهدنا زيادة كبيرة في عدد الإسرائيليين الذين يغادرون الأراضي الفلسطينية المحتلة. وتشير البيانات إلی أن حوالي 12,300 إسرائيلي اضطروا إلی الفرار في شهر أكتوبر 2023 وحده، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 285% مقارنة بالعام السابق. كانت هذه الزيادة في الهجرة نتيجة للخوف علی السلامة الشخصية والرغبة في الهروب من الصراعات المستمرة.
ظهور المشاكل النفسية في المجتمع الصهيوني لا يقتصر علی عملية "طوفان الأقصی"، بل وفقًا لتقارير المصادر الإسرائيلية، فإن الهجمات الصاروخية والطائرات المُسيّرة التي يشنها حزب الله علی الجبهة الشمالية، والتي أدت إلی نزوح أكثر من 200 ألف شخص من المستوطنات القريبة من الحدود مع لبنان، تسببت في آثار وضغوط نفسية أخری. وفي هذا السياق، أفادت شبكة "كان"، باعتبارها وسيلة إعلام رسمية إسرائيلية، في تقرير بتاريخ الأول من مهر، أن عدد الأفراد الذين يعانون من مشاكل نفسية جراء هجمات حزب الله قد ارتفع بنسبة 225%.
علاوة علی ذلك، منذ اغتيال الشهيد إسماعيل هنية في 10 مرداد، ودخول المحتلين في حالة ترقب للرد الانتقامي من إيران، شهد مستوی التوتر والقلق الناجم عن هذا الترقب ارتفاعًا كبيرًا بين الصهاينة. وفي هذا الصدد، كتب موقع "آي 24 نيوز" الإسرائيلي في تقرير بتاريخ 26 مرداد: "استنادًا إلی بيانات قسم الطوارئ في مستشفی رامبام، منذ دخول إسرائيل في فترة الترقب فيما يتعلق بالهجوم الإيراني، تضاعف عدد الحالات التي تزور المستشفی بسبب القلق والتوتر النفسي والضغوط النفسية بشكل ملحوظ."
وأشار هذا المركز الطبي إلی زيادة ملحوظة في حالات الانتحار، والذهان النفسي، وتعاطي المخدرات والكحول.