السيّدة لطيفة الحسيني - موقع العهد
يُكمل الحُكم في البحرين استفراده بكلّ مفاصل الحياة. من يظنّ أن النظام ينسی، أو يتقاعس عن استبداده لحظةً، فلديه مشكلةٌ في فهم عقليّة آل خليفة. من محطة الی محطة، يتنقّلون لإنجاز ما يُضاعف تسلّطهم. بعد حلّ جمعيات المعارضة وسجن قياداتها وجرائم التجنيس السياسي واللعب بقوائم الناخبين ومُحاصرة الشعب اقتصاديًا وإقصاء فئاتٍ منه عن الوظائف والتعليم والبعثات، يأتي اليوم دور الأوقاف الجعفرية.
مشايخ بلدة الدراز والعلّامة الشيخ محمد صنقور أثاروا قبل أيّام قضية تعني خصوصيّتهم المذهبية بشكل مباشر، بعدما تأكّد تغيير تصنيف عقار في الدراز من "عمارات مُتعدّدة الاستخدامات" الی تصنيف "مناطق الخدمات الدينية"، بغرض بناء مسجد تابع للأوقاف السنّية.
ماذا في خلفيات هذا القرار الذي بات مُبرمًا عقب نشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 22 آب/أغسطس 2023 رقم 1049؟ مصادر محلية في الدراز تحدّثت لموقع "العهد" الإخباري عن أحدث مشاريع السلطة الطائفية، فأوضحت أنها "تعود الی كلّ ما خطّط منذ عام 2011، سنة تفجّر الأزمة السياسية في البلاد واندلاع الحراك الشعبي المطلبي"، وبيّنت كيف أن "الدولة تعمل منذ 12 سنة علی خلق فتنة شيعية سنية لا يحتملها البلد".
عندما تنصّل الملك من وعده أمام آية الله قاسم
بحسب المصادر، كلّ ذلك لا ينفصل عن الجُهد الذي تبذله السلطة المُمثّلة بالملك حمد بن عيسی الذي يعمل من اللحظة التي بدأ عهده علی استهداف الوجود الشيعي المتجذّر في البحرين منذ آلاف السنوات، فهو علی الرغم من اللقاء الشهير والصريح الذي جمعه عام 2005 بالمرجع الوطني الكبير آية الله الشيخ عيسی قاسم،
أيْ بعد 5 سنوات علی تسلّمه منصبه، وما تضمّنه من حوار شفّاف بشأن خصوصية الأوقاف الجعفرية وشؤونها لناحية أهمية أن تُحصر بأبنائها الشيعة لناحية القوانين، كما تمنّی سماحته، لم يلتزم الحاكم بما أوحی أنه سيسير به، ولا سيّما بعدما طلب من الشيخ عيسی تصوّرًا مكتوبًا لكيفية عمل الأوقاف الجعفرية حصل عليه خلال 24 ساعة فقط.
التصوّر المكتوب ظلّ في أدراج قصر الملك، وقرّر الأخير المُضيّ بكلّ ما يُريده: التدخل في الأوقاف الجعفرية، مجلس إدارتها، تعييناتها، بياناتها، شخصيّاتها. هكذا ردّ الحاكم علی كلام الشيخ عيسی، لم يُنصِت له، بل أهملَ أكثر الشخصيات الوازنة في الطائفة الشيعية في البلاد.
آليّات إقصاء الشيعة ظهرت بعد سنة، إثر الكشف عام 2006 عن تقرير صلاح البندر، المُستشار السابق في الديوان الملكي، حول استهداف هؤلاء المُسلمين وعزلهم ضمن مخطّطٍ مُحكمٍ لضرب الطائفة بأكملها.
ضرب التعايش
انطلاقًا من ذلك، يمكن القول إن العُقدة الأساسية التي تُحرّك السلطة في سياساتها الداخلية هي الطائفية والغرض تهميش الشيعة بكلّ الوسائل المُتاحة، وعليه تسعی هذه السلطة الی تغيير التاريخ والهوية المتجذّرة في هذا البلد، والمساجد جزءٌ من هذه الحرب، في خطوةٍ لا تُفسّر سوی أنها ضربٌ لقيم التعايش التي يتمتّع بها الشعب وتُمارسها مختلف أطيافه.
المصادر لفتت الی أن الدولة تصبّ تركيزها منذ سنوات علی تبديل كلّ المعالم في البحرين من أجل زرع فكرة بالقوّة أن آل خليفة ليسوا طارئين علی هذا البلد، لأجل ذلك قاموا بصياغة تاريخ مزوّر للمملكة وشكّلوا لجنة لكتابة التاريخ في 24 ساعة حرصوا علی أن تتضمّن فئة واحدة من الشعب، بعد أن كان يترأسها الشيخ عبد الله بن خالد (وزير العدل والشؤون الإسلامية سابقًا)،
بحيث يظهر أن آل خليفة والمُسلمين الشيعة أتوا الی البحرين حديثًا، غير أن الآثار الإسلامية الموجودة التي تعود الی مئات السنين تدحض ذلك، فالشيعة موجودون في البحرين منذ بدايات الإسلام، منذ أن أتی موفد الرسول (ع) الی البحرين لتكون من أوّل الدول التي دخلت الإسلام، وآثار أصحاب للرسول والإمام علي (ع) في البحرين تشهد كما مرقد الصحابي صعصعة بن صوحان العبدي (من أصحاب الإمام علي (ع)) في منطقة عسكر. وهذا النقاش لطالما شكّل مادّة سجال مع الملك وأجهزته في وسائل الإعلام وغيره من أجل تفريق مكوّنات الشعب لا جمعها.
السطوة متواصلة
لن يتوقّف الملك عن استخدام الورقة الطائفية والهيمنة علی الأوقاف الجعفرية، وسيظّل تدخّله قائمًا في شؤونها، غير مُكترثٍ لرأي مشايخها وكبار علماء الطائفة، كذلك سيبقی تعيين المحسوبين عليه علی حاله، فارِضًا منعًا وقمعًا علی الأعضاء المُعرّضين للإقالة من مناصبهم في أيّة لحظة قد يُفكّرون فيها الاعتراض أو رفض أيّ أمر أو مرسوم أو قرار.
لا تزال حادثة 2011 حاضرة في أذهان أبناء الطائفة، عندما أقال الملك مجلس إدارة الأوقاف بأعضائه العشرة، علی خلفية إصدار رئيس المجلس آنذاك أحمد حسين إبراهيم عباس ونائبه سيد أحمد الوداعي بيانًا بخصوص المساجد المُهدّمة من قبل أجهزة الأمن خلال فترة السلامة الوطنية (الطوارئ).
وفق المصادر المواكبة لقضية الأوقاف الجعفرية، لن تتراجع الدولة عن فعلتها الأخيرة في الدراز، وستواصل سعْيَها من أجل توسيع رُقعة سيطرتها علی كلّ العقارات التي تخوّلها اللعب علی الوتر الطائفي، لأنّ التجنيس والإقصاء من الوظائف الأساسية في البلد وحصر الثقافة الدينية في مذهب واحد لم يعد يكفيها.