مئة عام علی أوّل عريضة لعزل الحاكم في البحرين

نحن الآن في ديسمبر/كانون الأول 1923 وقد مضی علی عزل حاكم البحرين عيسی بن علي حوالي الأربعة أشهر. كان قرار عزله حدثًا فريدًا من نوعه في تاريخ الحركة السياسية الصاعدة وقتها.
مئة عام علی أوّل عريضة لعزل الحاكم في البحرين

الباحث عباس المرشد - لندن

لا تبدو الأمور هادئة كما أرادها البريطانيون، عندما أجمعت كلمتهم علی التدخّل المباشر وحِصار العاصمة المنامة بالبوارج الحربية لتنفيذ قرار عزل عيسی بن علي آل خليفة الذي تربّع علی سدّة الحكم أكثر من خمسين عامًا، وأحدثت فترة حكمه فجوةً واسعة بين بيت الحُكم وبين السكان الأصليين البحارنة.

في عهده، تمّ تطبيق نظام المقاطعات وهو النظام الأكثر سوءًا والأشدّ صرامة في إحداث المظالم، إذ قسّم عيسی بن علي البحرين إلی عدّة مقاطعات ووهب حُكمها لأفراد عائلته وفتح لهم كامل الصلاحيات المُطلقة لجني الضرائب ومُصادرة الأملاك واختطاف النساء والأفراد وإجبارهم علی أعمال السخرة.

كان لدی كل حاكم مقاطعة قوّة من الفداوية الباطشين بعصيّهم الجبّارين في قسوتهم علی السكان البحارنة، والسكان الذين لا يقعون ضمن قوائم القبائل الموالية والمتحالفة مع عائلة آل خليفة.

نتيجةً لهذا النظام المُتحكّم في الأرض والأنفس، تضخّمت المظالم في حق البحارنة حتی فقدوا أملاكهم ولم يعد مسموحًا لهم التصرّف في أملاكهم وخيراتهم إلّا بعد موافقة أمير المقاطعة الذي يقرّر هل تباع الأرض أمْ يستولي عليها.

كان إلی جانب أمير المقاطعة بعض الأعوان من البحارنة، يُحدّدون له الأراضي والخيرات ويقعون وسطاء بينه وبين الملّاك الأصليين للأرض، وتُوكل إليه بعض المهام القذرة من قبيل تأجير المزارع وتحديد قيمة الضرائب، أما الفدواية فعليهم جمع الأتاوات وفرض العقاب والعذاب علی المزراعين وصائدي الأسماك وتنفيذ أعمال السخرة علی المواطنين الأصليين.

لم يكن البحارنة في وضعٍ يسمح لهم بمُمارسة المزيد من السكوت وتمرير المظالم، فكانت عرائضهم السياسية قويةً في عباراتها، صريحةً في وصف واقعهم الذي تحدّث عنه جون غوردون لوريمر (المؤرخ البريطاني الشهير) بأنه أقرب إلی وضع العبيد في المزارع الاستعمارية، فقد عمل حُكم آل خليفة إلی تحويل الملّاك الأصليين للأرض والمزارع إلی عمّال فيها وخدم غير مباشرين لأفراد عائلة بيت الحكم.

قبل عزل الحكم عيسی بن علي في مايو/أيار 1923، كتب البحارنة عشرات العرائض السياسية ضد نظام الحكم الخليفي ورفعوها إلی المعتمد البريطاني في البحرين الميجر ديلي، كما كتبوا عرائض مشابهة للمقيم البريطاني في أبوشهر يشكون فيها واقع حالهم ويحمّلون الإدارة البريطانية مسؤولية تلك المظالم، باعتبار أن بريطانيا هي التي تثبت حكم آل خليفة في البحرين وهي التي ترعاه وتؤمّن له الحماية الداخلية والخارجية.

يعكس تراثُ تلك العرائض طبيعة المجتمع السياسي في البحرين مطلع عشرينات القرن الماضي، وتعكس تلك العرائض أيضًا حجم الاضطراب الداخلي ووصوله إلی لحظات الثورة الشعبية المرتقبة، ونقف في إحدی العرائض علی تهديدٍ واضحٍ من قبل البحارنة بإعلان الثورة علی الحاكم والإدارة البريطانية إن لم تتدخّل بريطانيا لوضع حدّ للمظالم السائدة وإيقاف نظام السخرة وبدء تطبيق القانون المدني الموحّد علی الجميع وتحسين السجون وأنظمة الصحة والتعليم.

بعد سجالاتٍ طويلة بين حكومة الهند والمقيم البريطاني والمعتمد البريطاني، قرّرت الإدارة البريطانية عزل عيسی بن علي وتعيين نجله حمد بديلًا عنه لتمرير الإصلاحات المحددة، والتي من شأنها أن تلبّي بعض مطالب السكان الأصليين البحارنة من جهة ومن جهة أخری تمرير مصالحهم في صفقات الجمرك وتطبيق قانون القضاء البريطاني، إذ وجدوا أن حمد بن عيسی سيكون مُطيعًا أكثر من والده.

علی ضفاف الجزيرة، كانت عيون محمد بن سعود تترقّب الأوضاع وتتحيّن الفرص للاستيلاء علی البحرين وضمّها لمملكته، وتُشير بعض الوثائق البريطانية إلی أن لقاءً سريًا عُقد في الدمام بين قبائل موالية لعيسی بن علي وبين مبعوث ابن سعود تقرّر فيه تسليح قبائل الدواسر وتميكنهم في حال قررت بريطانيا عزل الحاكم والمضيّ في تنفيذ الإصلاحات التي سيتضرّر منها الجناح القبلي المُتحالف مع بيت الحكم.

مثّل هذا اللقاء حدثًا خطيرًا بالنسبة للبريطانيين وتمّ تفسيره علی أنه خطة سرية لإحداث انقلاب سياسي في البحرين لصالح ابن سعود. وبالمناسبة كانت لابن سعود قوّة نافذة في البحرين وقوّة اقتصادية ضخمة، وبالتالي فإن خطره يضاهي خطر أيّة مجموعة سرية تعمل للسيطرة علی الحكم، وهو الأمر الذي لا تحبّذه بريطانيا ولا ترغب في حدوثه ولهذا عملت بريطانيا لحماية سلطتها في البحرين عبر طريقيْن:
 
الأول: إحضار قوّة عسكرية تحاصر بها البحرين منعًا لأيّ انزالق عسكري يقوم به ابن سعود والقبائل المُتحالفة معه في البحرين، ومن ثم تأمين انتقال طوعي للسلطة من الأب إلی الإبن.

الثاني: إعطاء تطمينات سياسية واضحة لابن سعود حول طبيعة الإصلاحات المقرّر تنفيذها خصوصًا ضمان التفوق السني في الجزيرة وعدم تمكين الشيعة سياسيًا أو اقتصاديًا.

وبالفعل، حضرت البوارج البريطانية وحاصرت الجزيرة وبعث المقيم البريطاني رسالة إلی ابن سعود وعده فيها بضمان تفوّق السنّة وعائلة آل خليفة في الحكم والسيطرة مع تحسين ظروف الشيعة المعيشية.

وفي الواقع لم تكن الإصلاحات الإدارية كافية لإنهاء مسيرة عقود من الاحتلال والاضطهاد في حق السكان البحارنة، فكانت رؤية بيت الحكم والقبائل المتحالفة معه أن البحارنة لا يستحقّون أية حقوق وأن أيّ تحسين لأوضاعهم يعني انتقاصًا من مكانة بيت الحكم والقبائل المُتحالفة معه.

في هذه الفترة نفسها حدثت مجازر عديدة في حق القُری الشيعية واغتيالات للشخصيات القائمة علی الحراك السياسي، وثبت في تحقيقات الإدارة البريطانية أن الجهة المنفّذة لتلك الجرائم هي نفسها التي كانت عقدت اتفاقا مع ابن سعود في الدمام. جاء القرار البريطاني قاسيًا عليهم لناحية ضرورة محاكمتهم علی جرائم القتل والاغتيال التي نفّذوها. وانتهی الأمر بمُعارضة تلك القبيلة لقرار المحكمة والتهديد بالرحيل عن البحرين إلی الدمام والانضمام إلی قوة ابن سعود، وهي قصة طويلة سنأتي علی ذكرها في حلقات قادمة.

خلاصةُ بداية المئة عام أنها بدأت مع قوّة الوعي وقوّة المعرفة وقوّة العرائض وقوّة الحراك الميداني، وما تزال تُعطي ثمارها رغم عدم إنجازها ورغم محاولات بيت الحكم والإدارة البريطانية الالتفاف علی جوهر مطالبها.

هي حكاية رَوَتها أجساد مواطنين بحارنة ذهبوا ضحية مجازر وحشية تعرّضت لها القُری الشيعية علی أيدي فداوية وعلی أيدي أفراد من عائلة الحكم وتحت أنظار الإدارة البريطانية وبتحريض من ابن سعود، وإذا ما رجعنا إلی مجلس عزل الحاكم والخطابات التي أُلقيت فيه سنفهم كيف تمّت هندسة الهويّات السياسية وكيف وُضعت الحدود السياسية للحراك السياسي المسموح به في الجزيرة.