إذا ترافقت وحدة المسلمين مع الروحانيّة، فستصل الأمّة الإسلاميّة إلی ذروة العزّة والسعادة

وجّه قائد الثورة الاسلامية المعظم سماحة آية الله السيد علي الخامنئي نداءً إلی حجاج بيت الله الحرام.
إذا ترافقت وحدة المسلمين مع الروحانيّة، فستصل الأمّة الإسلاميّة إلی ذروة العزّة والسعادة

جرت صباح اليوم الجمعة 8/6/2022 قراءة نداء الإمام الخامنئي الصادر في 5/7/2022 إلی حجّاج بيت الله الحرام من أنحاء العالم الإسلاميّ لمناسبة حلول موسم الحجّ 1443. وفي ندائه، شدّد قائد الثورة الإسلاميّة علی أنّ وحدة المسلمين لو ترافقت مع الروحانيّة، فستصل الأمّة الإسلاميّة إلی ذروة العزّة والسعادة، مشيراً إلی أن العالم الإسلامي مليءٌ بالشباب المفعمين بالدوافع والنشاط، كما أكد أهمية تجنب الغفلة لحظة واحدة عن كيد العدوّ، واستمداد العون باستمرار من الله القادر والحكيم.

وفي ما يلي النص الكامل لنداء الحج:

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، وصلی الله علی محمد المصطفی وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

نشكر الله العزيز الحكيم أن جعل مرّة أخری الموسم المبارك للحجّ ميعاداً للشّعوب المسلمة، وشرّع أمامهم مسار الفضل والرّحمة هذا. الأمّة الإسلاميّة قادرة الآن علی مشاهدة وحدتها وتلاحمها من جديد في هذه المرآة الشفّافة والأبديّة، وأن تشيحَ بوجهها عن دوافع التشتّت والتفرّق.

وحدة المسلمين هي إحدی الركيزتين الأساسيّتين للحجّ، وعندما تترافق مع الذّكر والروحانيّة - التي هي الرّكيزة الأساسيّة الأخری لهذه الفريضة الزّاخرة بالرموز والأسرار- يكون بمقدورها إيصال الأمّة الإسلاميّة إلی ذروة العزّة والسعادة، وجعلها مصداقاً لـ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون، 8). الحجّ تركيبٌ من هذين العنصرين السياسيّ والروحانيّ، ودين الإسلام المقدّس مزيجٌ عظيمٌ وسامٍ من السياسة والروحانيّة.

لقد بذل أعداء الشّعوب المسلمة خلال الحقبة التاريخيّة الأخيرة مساعيَ ضخمة من أجل زعزعة هذين الإكسيرين الواهبين للحياة - أي الوحدة والروحانيّة – في أوساط شعوبنا. وهم يجعلون الروحانيّة باهتة اللون وبلا رمق عبر التّرويج لنمط الحياة الغربيّة الفارغة من الرّوح المعنويّة والمنبثقة عن قصر النظر الماديّ، ويجعلون الوحدة تواجه التحدّيات عبر نشر دوافع التفرقة الوهميّة و تشديدها كالعرق واللون والجغرافيا واللسان.

الأمّة الإسلاميّة التي يُشاهد الآن نموذجٌ صغيرٌ لها في مراسم الحجّ الرمزيّة ينبغي لها أن تنهض للمواجهة بكامل وجودها. أي أن تقوّي ذكر الله والعمل من أجله والتدبّر في كلامه والثّقة بوعوده في ذهنيّتها العامّة من جهة، وتتفوّق علی دوافع التفرقة والخلاف من جهة أخری.

ما يُمكن قوله اليوم بشكل حاسم هو أنّ الظروف الحاليّة للعالم والعالم الإسلاميّ باتت مؤاتية أكثر من أيّ زمنٍ مضی لإنجاز هذا المسعی القيّم.

والسّبب أوّلاً هو أنّ النّخب والكثير من الجماهير الشعبيّة في البلدان الإسلاميّة التفتوا اليوم إلی ثروتهم المعرفيّة والروحانيّة العظيمة، وأدركوا مدی أهميّتها وقيمتها. لم تعد الليبراليّة والشيوعيّة اليوم - بصفتهما أهمّ تحفتين قدّمتهما الحضارة الغربية - تملكان حضور ما قبل مئة عام أو الأعوام الخمسين الماضية. إن سمعة الديمقراطيّة الغربيّة القائمة علی المال تواجه أسئلة حقيقيّة، والمفكّرون الغربيّون يقرّون بإصابتهم بالتّيه المعرفيّ والعمليّ. وفي العالم الإسلاميّ، يكتسب الشباب والمفكرون ورجال العلم والدين بعد رؤيتهم هذه الأوضاع، رؤية حديثة تجاه ثروتهم المعرفيّة وأيضاً حيال المناهج السياسيّة الرائجة في بلدانهم... وهذه هي عينها الصّحوة الإسلاميّة التي نردّد ذكرها باستمرار.

ثانياً، هذا الوعي الذاتي الإسلاميّ أنشأ ظاهرة مذهلة وإعجازيّة في قلب العالم الإسلاميّ، إذْ إنّ القوی الاستكباريّة تواجه مأزقاً كبيراً في التعامل معها. هذه الظاهرة اسمها «المقاومة» وحقيقتها هي ذاك التجلّي لقوّة الإيمان والجهاد والتوكّل. هذه الظاهرة هي نفسها التي نزلت في مرحلة صدر الإسلام حول إحدی نماذجها هذه الآية الشريفة: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} (آل عمران). والساحة الفلسطينيّة من التجلّيات لهذه الظاهرة المُذهلة التي استطاعت جرّ الكيان الصّهيوني الطاغي من حالة الهجوم والعربدة إلی حالة الدّفاع والارتباك، وتمكّنت من فرض هذه المشكلات السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة الواضحة عليه الآن. كما يُمكن مشاهدة نماذج لامعة أخری للمقاومة في لبنان والعراق واليمن وبعض النقاط الأخری بوضوح.

ثالثاً، إلی جانب كلّ هذا، يشهد العالم اليوم نموذجاً ناجحاً وتجلياً شامخاً من القوّة والسيادة السياسيّة للإسلام في إيران الإسلاميّة. إنّ ثبات الجمهوريّة الإسلاميّة واستقلالها وتقدّمها وعزّتها حدثٌ بمنتهی العظمة ومفعمٌ بالمعاني وجذّاب يُمكنه أن يستقطب فكر ومشاعر أيّ مسلمٍ يقظٍ. وإنّ أنواع العجز والممارسات الخاطئة في بعض الأحيان والتي تصدر عنّا نحن المسؤولين في هذا النظام التي أخّرت الاكتساب الكامل لبركات الحكومة الإسلاميّة كافّة، لم تستطع إطلاقاً زعزعة الأسس المتينة والخطوات الراسخة النابعة من المبادئ الأساسيّة لهذا النّظام، وعجزت عن إيقاف التقدّم المادّي والمعنويّ. وتقع علی رأس القائمة لهذه المبادئ الأساسيّة: حاكمية الإسلام في تشريع القوانين وتطبيقها، والاعتماد علی الآراء الشعبيّة في أهمّ شؤون إدارة البلاد، والاستقلال السياسيّ الكامل، وعدم الرّكون إلی القوی الظالمة. وهذه المبادئ هي القادرة علی أن تحظی بإجماع الشّعوب والحكومات المسلمة، وأن توحّد الأمّة الإسلاميّة في التوجّهات وأنواع التعاون، وتجعلها متلاحمة.

هذه هي المجالات والعناصر التي وفّرت الظروف الحاليّة الملائمة من أجل قيام العالم الإسلاميّ بتحرّك مُتّحد ومتلاحم. لا بدّ أن تفكّر الحكومات المسلمة والنّخب الدينيّة والعلميّة والمثقّفون المستقلّون والشباب الباحثون عن الحقيقة أكثر من الجميع في الاستفادة من هذه المجالات المؤاتية.

من الطبيعيّ أن تقلق القوی الاستكباريّة وعلي رأسها أمريكا أكثر من مثل هذه التوجه في العالم الإسلاميّ، وتُسخّر كلّ إمكاناتها من أجل التصدّي لها... وهذه هي الحال اليوم. بدءاً من الامبراطوريّة الإعلاميّة وأساليب الحرب النّاعمة، مروراً بإشعال الحروب والحروب بالنيابة، وصولاً إلی إلقاء الوساوس والنّميمة السياسيّة، وانتهاءً بالتهديد والتطميع والرّشوة... كلّها وجميعها تُستخدم من قبل أمريكا وسائر المستكبرين كي تفصل العالم الإسلاميّ عن مسار صحوته وسعادته. إن الكيان الصّهيوني المُجرم والمخزيّ هو أيضاً من أدوات هذا المسعی الشامل في هذه المنطقة.

لقد باءت هذه المساعي بالفشل في أغلب الحالات بفضل الله وإرادته، وإنّ الغرب المستكبر صار أضعف يوماً بعد يوم في منطقتنا الحسّاسة، وفي كلّ العالم أخيراً. ويُمكن مشاهدة اضطراب أمريكا وحليفها المجرم أي الكيان الغاصب وفشلهما في المنطقة بوضوح ضمن مشهد الأحداث في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن وأفغانستان.

وفي المقابل، إن العالم الإسلاميّ مليءٌ بالشّباب المفعمين بالدّوافع والنشاط. وإنّ أعظم ذخر من أجل بناء المستقبل هو الثقة بالنّفس والأمل اللذان يلوحان اليوم في العالم الإسلاميّ، وخاصة في بلدان هذه المنطقة... ونتحمّل جميعاً مسؤوليّة الحفاظ علی هذا الذخر ومضاعفته.

مع كلّ هذا، لا ينبغي الغفلة للحظة واحدة عن كيد العدوّ. فلنجتنب الغفلة والغرور، ونضاعف سعينا ويقظتنا... ولنطلب العون من الله القادر والحكيم في الأحوال كلّها بالتضرّع والإنابة. إنّ المشاركة في مراسم الحجّ ومناسكه فرصة عظيمة للتوكّل والتضرّع، وكذلك التفكّر والعزم.

فلتتوجهوا إلي الله بالدعاء لإخوتكم وأخواتكم المسلمين في أنحاء العالم، ولتطلبوا لهم النّصر والتوفيق من الله. ولتضمّنوا أدعيتكم الزّاكية طلب الهداية والعون الإلهيّ لأخيكم هذا.

سيّد عليّ الخامنئي

5 ذي الحجّة 1443

5 تمّوز/يوليو 2022