إيران تخيط قواعد اللعبة ضد الولايات المتحدة و"إسرائيل"

باستخدامها جزءاً بسيطاً من قدراتها ضدّ الولايات المتحدة و"إسرائيل"، ترسم إيران معادلات ردع جديدة مقابلهما، وتفرض تداعياتٍ استراتيجيةً، ستلقي بظلالها مستقبل المنطقة وعلی أي مواجهة مقبلة.
إيران تخيط قواعد اللعبة ضد الولايات المتحدة و

بعدما انتهت حالة الترقب الدولية والإقليمية التي استمرت علی مدی أسبوعين، للرد الإيراني علی استهداف القنصلية في دمشق، نفّذ حرس الثورة عملية قلّ نظيرها في التاريخ القديم والحديث. وعليه، دخلت المنطقة بأكملها، في سياق جديد، عنوانه المواجهة المباشرة بين إيران و"إسرائيل".

وتبيّن في هذه المواجهة، من عنوانها الأولي، بعد الهجوم، أنّ "إسرائيل" أضعف من أن تكون قادرة، منفردةً، علی مواجهة استراتيجية متكاملة، وهجوم بمزايا متنوّعة من قبل أطراف محور المقاومة.

ومن شبه المؤكد، أنّه لولا أميركا وفرنسا وبريطانيا ومعها الأردن، لكانت تداعيات الهجوم الإيراني أكبر بكثير مما حصل.

واليوم، الولايات المتحدة الأميركية "ممزّقة في الشرق الأوسط، وإسرائيل مهانة". توصيف أوردته مجلة "إكونوميست" وموقع "والا"، شارحين كيف باتت إيران، قبل العملية الأخيرة وبعدها، تمارس الردع تجاه كلتيهما.

وعلی الرغم من استخدام طهران، في عملية "الوعد الصادق"، جزءاً صغيراً فقط من قدراتها، أجمع المحللون والمسؤولون الإسرائيليون علی أنّ إيران لا تخاف "إسرائيل"، بل هي تثق بقدراتها وتغيّر قواعد اللعبة بالفعل.

منذ أكثر من ثلاثة عقود، لم تجرؤ أي دولة علی الاقتراب من حدود كيان الاحتلال، ناهيك بتنفيذ هجوم بداخلها.

وعليه، كسرت إيران خطاً أحمر، مؤكدةً لإدارة الحرب الإسرائيلية، وفق "فايننشال تايمز"، أن طهران أكثر جنوناً مما تدركون، "ونحن علی استعداد لتحمل عواقب الحرب إذا لزم الأمر".

وقبل 4 سنوات، بعيد اغتيال واشنطن لقائد قوة القدس الشهيد قاسم سليماني، فعلت طهران الأمر نفسه مع الولايات المتحدة. وكرست معها قواعد جديدة.
استهداف "عين الأسد".. كسر للخطوط الحمر

منذ الهجوم الياباني علی ميناء "بيرل هاربور" عام 1941، لم تشنّ دولة من قبل، هجوماً علی قواعد عسكرية أميركية من دون أن تكون واشنطن قد بدأت حرباً ضدّها أو احتلت أرضها. لا قاعدة ولا جندي، ولا داخل الحدود أو خارجها.

لكن، وفي سابقة تاريخية، استهدفت إيران في عام 2020، بشكلٍ مباشر، قاعدة "عين الأسد" في كانون الثاني/يناير، رداً علی اغتيال الشهيد قاسم سليماني.

ومذ ذاك، كثر الحديث الغربي عن تأكّل الردع الأميركي في الشرق الأوسط ووصوله إلی مستوی منخفض. حينها، تم الاستهداف بـ13 صاروخاً باليستياً، علی مدی نحو 80 دقيقةً، ملحقةً أضراراً كبيرةً في المنشأة العسكرية المحصّنة.

ووُصف الهجوم بأنّه "أكبر هجوم باليستي ضدّ الأميركيين علی الإطلاق"، حيث لم تتعرّض قوة برية لهذا الكم من الصواريخ الباليستية من قبل.

وبشأن "عين الأسد" بالتحديد، مثّل الهجوم الإيراني عليها جرأةً كبيرة، حيث كانت تلك المرة هي الأولی التي تستهدف فيها دولة هذه القاعدة، التي بُنيت عام 1980، علماً أنها الثانية من حيث الحجم في العراق، وتضمّ ما يتراوح بين 1500 إلی 2000 جندي أميركي.
إيران تردّ علی "إسرائيل".. فصل جديد للمتنافسين القدامی

علی مدی أسبوعين، ترقّبت "إسرائيل" بقلق بالغ رد إيران علی استهداف قنصليتها، حتی جاء الـ14 من نيسان/أبريل، الذي شهد "الوعد الصادق"، حيث حلّقت في أجواء فلسطين المحتلة أسراب من المسيّرات والصواريخ الإيرانية، استهدفت نقاطاً تابعةً لـ"الجيش" الإسرائيلي.

رسمت إيران في خطوتها غير المسبوقة، خطاً أحمر تجاه "إسرائيل"، وفرضت معادلةً جديدة - بعد أن هاجمت الكيان للمرة الأولی من أراضيها- مفادها أنّ أي هجوم إسرائيلي علی أراضيها، سيُقابل برد مباشر منها، لتفتح "فصلاً جديداً للمتنافسين القدامی".

ويأتي ذلك علی الرغم من أنّ إيران لم تستخدم أفضل وكل ما لديها من قدرات، كماً ونوعاً، ما يعني أنّ طهران قادرة فعلاً علی أن ترد بهجوم مضاعف، في حال أقدمت "إسرائيل" علی شنّ عدوان آخر ضدّها.

ورغم تعمّد الاحتلال، ومعه الغرب والمطبّعون من العرب، كالعادة،  التقليل من أهمية الإنجاز الإيراني وحجمه، أكد الصحافي الإسرائيلي المقرب جداً من جهاز الموساد، ⁧رونين برغمان⁩، أنّه لو تم تصوير وقائع اللقاءات هذا الأسبوع وبثّها بشكل مباشر علی "يوتيوب"، "لكان هناك 4 ملايين شخص (نصف مستوطني الكيان) في إسرائيل يبحثون عن سبيل للفرار".
ما هي المواقع التي طالتها الصواريخ الإيرانية؟

الرد الإيراني الموجّه ضد الاحتلال الإسرائيلي، تمكّن من تخطي الدفاعات الغربية والأردنية المستنفرة لاعتراض الصواريخ والمسيّرات الإيرانية، التي تمكّنت من إلحاق الأضرار بقاعدة "نيفاتيم"، والمقر الاستخباري في جبل الشيخ.

قاعدة "نيفاتيم" الجوية، التي كانت أحد أبرز الأهداف، تبعد نحو 1100 كلم عن الأراضي الإيرانية، وتقع علی بعد 15 كلم، جنوبي شرقي مدينة بئر السبع المحتلة، وتُعدُّ المقرّ الأساس لطائرات "F-35" الأحدث، التي امتلكها سلاح الجو الإسرائيلي بعد صفقة مع الولايات المتحدة.

وتحتوي القاعدة مطاراً بثلاثة مدرجات، وقد تمّ تحديثه مؤخراً لاستقبال هذا النوع من الطائرات، وهي تعمل برادار "band-X"، القادر علی كشف التهديدات الجوية من مسافة تبعد نحو 5000 كلم.

كما أنّها كانت إحدی الوجهات الرئيسة في "إسرائيل"، التي مدّها الجسر الجوي الأميركي غير المسبوق بالأسلحة، منذ الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر.

المقرّ الاستخباري في جبل الشيخ يقع علی ارتفاع نحو 2100 م، وتعمل فيه الوحدة 8200 بصورة خاصة، وهي الوحدة الأكبر في "الجيش" الإسرائيلي.

ويضمّ الموقع العديد من تجهيزات القوة الجوية، ويتم التنصّت عبرها علی المحادثات باللغة العربية، بهدف استخراج المعلومات منها.
ردود إيرانية بتداعيات استراتيجية

تاريخياً، استوعبت إيران منذ انتصار الثورة الإسلامية، الضربات التي تعرّضت لها، من دون أن تنجرّ إلی ردود فورية عشوائية أو متهوّرة، متّبعةً ما سمي منذ وقتها بـ"الصبر الاستراتيجي"، وراسمةً خططها بتأنٍّ ودقة.

لكن بعد أسبوع من اغتيال الشهيد سليماني، دكّت الصواريخ "عين الأسد". وبعد أسبوعين من استهداف القنصلية، حلّقت المسيّرات والصواريخ فوق "إسرائيل".

وفي الحالتين، تكمن أهمية الرد الإيراني في التداعيات الاستراتيجية، المتمثّلة بتعزيز الردع الإيراني، وإعادة رسم التوازن الإقليمي والدولي في التعامل مع إيران.

يثبت الردان الإيرانيان، علی محدوديتهما المتعمدة، قدرة طهران علی مواجهة قوة عالمية عظمی، هي الولايات المتحدة، و"إسرائيل" التي تحتشد في صفها عدة قوی عالمية وإقليمية.

الردان، اللذان تخلّلتهما ضربات دقيقة ومدروسة من مسافات كبيرة، يرغمان واشنطن و"تل أبيب"، علی التفكير ملياً في ما قد يستتبعه أي عدوان ضدّ إيران، الماضية قدماً في تعزيز قدراتها، والتي أكدت أن ردّها المقبل علی أي هجوم إسرائيلي مقبل، سيكون أشد قسوة، وأكثر دماراً.

وفي أي مواجهة مقبلة، قد لا يتهدّد الخطر القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في المنطقة أو "إسرائيل" فقط، بل إنّه قد يطال أيضاً البنية التحتية الحيوية لشركاء واشنطن، التي تقدّم التسهيلات للاحتلال في هجماته.