بعيداً عن العمل العسكري...
تملك المملكة أوراق قوة تقلب مشهد العدوان والحصار المطبق علی أطفال غزة تحت عشرات آلاف الأطنان من القذائف رأساً علی عقب:
دبلوماسية المساعدات
تنفيذ بيان القمة الطارئة التي عقدت علی أرض المملكة، قائدة الدورة الحالية للجامعة العربية، خصوصاً البند الذي ألزم العرب أنفسهم فيه بفك الحصار وإيصال المساعدات بشكل فوري، وهو ما يخوّلها أن تسير برسالة تحدٍّ عبر قوافل لإدخالها إلی قطاع غزة، يقودها مسؤولون سعوديون، وهو ما سيمنع "إسرائيل" من قصفها، فتداعيات ذلك أكبر من قدرة الكيان علی تحمّلها ولا يريدها لأسباب عديدة، بعضها مرتبط بالتطبيع.
الدبلوماسية الاقتصادية
التلويح بسلاح النفط، ليس بالضرورة قطعه أو حظر بيعه إلی الأسواق الغربية، ولا سيما لواشنطن، ولكن يكفي التهديد به، أو أن تقود الرياض مسعی في منظمة أوبك بلاس لخفض الإنتاج دعماً لغزة... قوة الخطوة أنها تهدّد برفع أسعار النفط المرتفعة أصلاً لمستويات لا طاقة للغرب الأطلسي أن يتحمّلها في ظل واقع السوق ما بعد المواجهة في أوكرانيا...
لكن الخطوة نفاها ضاحكاً في التاسع من الشهر الحالي وزير الاستثمار السعودي خالد بن عبد العزيز الفالح في معرض ردّ علی سؤال لقناة "السي أن أن" الأميركية قائلاً: إنها ليست مطروحة علی طاولة المملكة، مشيراً إلی أنّ مفاوضات التطبيع مع "إسرائيل" لا تزال مطروحة عليها!
قد تختلف الأسباب والخلفيّات للموقف السعودي من عدم التحرّك الجدّي لوقف العدوان الإسرائيلي علی قطاع غزة، ومن احتضان عملية "طوفان الأقصی" ومباركتها...
الحالة الثورية !!
لعلها "الثورة الفكرة" التي انفجرت في الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر بـ "طوفان الأقصی" محطّمة أسطورة الجبروت الإسرائيلي وأسطورة "جيشه" ... "الثورة الفكرة" القادرة أن تحوّل شعباً مستضعفاً بإمكانيات قليلة علی هزيمة الطغاة والمستكبرين مهما بلغوا من قوة وقدرة والإطاحة بهم...
لنرجع بالتاريخ إلی ستينيات القرن الماضي... الوطن العربي في حينه يعبره مدّ ثورات تحرّر وطني واستقلال عن استعمار عسكري مباشر وعلی ملكيات تحكم بلاد المركز في وطننا العربي كالعراق ومصر وتولّد فيها "جمهوريات" ركّزوا علی هذه الكلمة، ولنذهب إلی اليمن الثورة عام 1962 الذي تحوّل ساحة واجه فيها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الملكيّتين الأردنية والسعودية اللتين حاربتا قيام نظام جمهوري في اليمن خوفاً من وصول المدّ إلی ممالك وإمارات في دول الخليج والإطاحة بحكمها لذا وجب قتالها وسحقها...
فتّش عن "إسرائيل"!!
بعد خمسين عاماً نقلت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية عن الأرشيف المركزي الإسرائيلي أن "تل أبيب" قدّمت مساعدة عسكرية ضد الثوّار الجمهوريين في اليمن وعبد الناصر واستمرّت بذلك سنوات إلی أن جری الاتفاق علی وقف لإطلاق النار وإنهاء الحرب عام 1967... وبحسب الصحيفة الإسرائيلية فإن "ما قامت به تل أبيب تجاه اليمن وعبد الناصر ساهم بشكل فاعل ومؤثّر في هزيمة العرب عام 1967 بعد أن أُنهك الجيش المصري طوال سنوات سبقت الهزيمة". فكانت حرب "يعاقب" فيها عبد الناصر حامل راية "الثورة الفكرة".
ويبدو أنه كما في اليمن عام 62 من القرن الماضي كذلك في غزة تلتقي المصلحة والهدف ذاته ألا وهو طحن "الثورة فكرة" ...فليعاقب كلّ من تجرّأ وحلم بصنع أسطورة عبرت العالم.
فليقتلوا ويحرقوا ويبادوا ليكونوا عبرة لكلّ من تسوّل له نفسه اعتناق "الثورة الفكرة" وانتخاب خيار المواجهة والمقاومة لاقتلاع الطواغيت... فلتلعن "الثورة الفكرة" في رؤوس الوعي الجمعي للأمة عبر إبادة أصحابها في غزة، ونشر صورهم وهم يذبحون وأطفالهم محاصرون في المستشفيات في كلّ أرجاء المعمورة والعالم يتفرّج عليهم، والأدهی من ذلك أن تعمّم رواية التخلّي عنهم حتی من حلفائهم وشيطنتهم بعمل إعلامي منسّق وممنهج يحتاج إلی مقال وحده لتفصيله. كلّ ذلك بهدف وأد الفكرة حتی في خيال الجيل الجديد بأي مملكة أو إمارة في المنطقة...
"الفكرة الثورة" نقيض التطبيع التتبيع فمطلوب فشلها
سبق طوفان الأقصی بدء بحث التطبيع بين الرياض و"تل أبيب" من دون أيّ مكاسب لفلسطين القضية والشعب، بل تعويم لفوائد في الاقتصاد وترويج لمشاريع علی رأسها "خط الهند-أوروبا" الذي طرح في قمة العشرين بنيودلهي في أيلول/سبتمبر الماضي منافساً لخط الحرير الصيني، والترويج أنّ من عوائقه غياب تطبيع العلاقات بين السعودية و"إسرائيل" لاستكمال وصوله من منطقتنا إلی أوروبا... مسار التطبيع هذا أغرقه طوفان الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر فكان لا بدّ من إفشاله وتعويم خيار التطبيع علی أنه الأنجع، وأن خيار المقاومة لا يحقّق سوی القتل والتشريد والدمار والركود...
الحقيقة تحرّرت وانطلقت ...
انتصار غزة في طوفان الأقصی تمّ سلفاً ميدانياً واستراتيجياً وكذلك في الوعي الجمعي... "الثورة الفكرة" أحالت دم غزة نبراساً عبر العالم أعاد للقضية الفلسطينية موقعها علی الساحة الدولية، والأهم سياقها التاريخي وجذورها، هذا ما نسمعه في الساحات عبر العالم حيث يصرخ فيها الناس في دول غربية: "الحرية لفلسطين"، و"فلسطين من البحر إلی النهر". وأعاد لـ "إسرائيل" توصيفها الدقيق علی أنها "دولة" احتلال وإجرام... هذا غير قابل للنقاش لأنّ من فهمه جيل جديد "لن يموت" و"لن ينسی"، ليس في فلسطين المحتلة بل وفي العالم، وبالتالي فإن العداء لـ "إسرائيل" لن يبقی محصوراً بتشخيصها "الأداة المنفّذة" فقط وإنما لكلّ من شارك ودعم بشكل مباشر أو غير مباشر فجوهر "الثورة الفكرة" أنها تصلح لكلّ طاغية احتلالاً كان أو نظاماً.