ابن سلمان الی أنقرة لتطبيع العلاقات مع أردوغان!

يحل ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" ضيفاً ثقيلاً علی الرئيس التركي "رجب طيب إردوغان"، اليوم في أنقرة، المحطة الثانية في جولة قادته إلی مصر ويختمها في الأردن.
ابن سلمان الی أنقرة لتطبيع العلاقات مع أردوغان!

محطة لعلها الأكثر إثارة في خروجه هذا، بالنظر إلی أنها كانت حتی الأمس القريب «أرضا معادية» تحاك فيها الخطط للإطاحة به، باستغلال جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي علی تلك الأرض بالذات عام 2018، لتخرج بعد ذلك عفاريت الماضي والحاضر، وتلعب في الهوة الفاصلة بين الرجلين والبلدين لأربع سنوات عجاف.

في ذروة تأزم العلاقات بين تركيا والسعودية، لم تستثن المقاطعة السعودية للمنتجات التركية، حتی «الشاورما». حظر سفر السعوديين إلی تركيا، وشجعوا علی الذهاب إلی اليونان، بل وصل الأمر إلی حد إزالة اسم السلطان العثماني، سليمان القانوني، عن أحد شوارع الرياض، لقيامه بـ«سرقة أجزاء من الحجر الأسود ومقتنيات قبر النبي»، علما أن أحدا في المملكة لم يقل لماذا أطلق الاسم علی الشارع أصلا ما دام هذا ديدن القانوني، كما لم يقل أحد لماذا تهتم الرياض بقضية «تافهة» مثل اسم شارع، علی حد وصف السعوديين أنفسهم في رد فعلهم علی إطلاق اسم جمال خاشقجي علی شارع السفارة السعودية في واشنطن.

ولذا، فإن اللقاء بين إردوغان وابن سلمان هو لقاء بين زعيمين عاكستهما الأيام، وجمعتهما الضرورة التي جعلت كلا منهما حاجة إلی الآخر. فالأول انهارت دفعة واحدة مشاريعه التوسعية التي ظلت تتصاعد منذ وصوله إلی السلطة عام 2002، وبنی لأحلامه «السلطانية» قصرا في أنقرة بكلفة نصف مليار دولار، لا ليكون مركزا لحكم الجمهورية، وإنما الإمبراطورية المستعادة؛ والثاني أوغل في المغامرات، عله يحسم صراع الشرعية باكرا، فإذا بها ترتد كلها عليه، ولا ينقذه منها إلا الارتفاع الجنوني لأسعار النفط، والذي تسبب به الرئيس الأميركي، جو بايدن، نتيجة سياساته الاستفزازية ضد روسيا، وصولا إلی التحريض علی الحرب في أوكرانيا.

تقلصت طموحات إردوغان إلی الفوز في انتخابات الرئاسة الأصعب له منذ وصول إلی السلطة، ما يجنبه نهاية مهينة لحياته السياسية في خريف العمر، بينما يسعی ابن سلمان سعيا حثيثا لتهيئة الظروف الدولية والإقليمية المناسبة لتواكب توليه العرش، لعمر طويل، عندما يموت والده العاجز، وهو يری في انتزاع اعتراف الرئيس التركي بزعامته أمرا حاسما، لا فقط لما تمثله تركيا من رمزية في العالم الإسلامي، وإنما أيضا لأن إردوغان كان راعيا لواحد من أكبر التهديدات لحكم ابن سلمان، أولا من خلال محاولته استثمار صعود «الإخوان المسلمين»، وثانيا بفضح تورط ولي العهد في جريمة قتل جمال خاشقجي في قنصلية السعودية في إسطنبول، الأمر الذي كاد يطيح به، لولا الكثير من الحظ.

ولا تنعزل الزيارة عن ما يجري في المنطقة من ترتيب تحالفات تكون إسرائيل محورا أساسيا فيها، وهو ما جری التمهيد له بتقارب مع العدو، معلن تركيا، وغير معلن سعوديا، يرتبط بمسعی أميركي للملمة «الشركاء» الإقليميين، ردا علی التقدم الروسي في أوكرانيا، وكذلك ارتباطا بملف الطاقة المتفرع من هذا الصراع، وتحديدا الغاز الذي تشكل له ائتلافات يراد منها تطويب إسرائيل حارسة للأنظمة في هذه المنطقة.

وأي تحسن في العلاقات التركية - السعودية يفترض حكما تنظيم كل أنواع التنافس المزمن بين البلدين، والناجمة أساسا عن «عداوة الكار»، وهو ما يسمح به تخفف ابن سلمان من تركة الوهابية، وإلقاء إردوغان الكثير من الحمولات «الإخوانية»، ولا سيما تلك التي تنتمي إلی دول الخليج الفارسي.

ينعقد اللقاء بين زعيمين عاكستهما الأيام، وجمعتهما الضرورة التي جعلت كلا منهما حاجة إلی الآخر

ومن جهتها، تری تركيا أن العلاقة مع المملكة تساعدها في الإبقاء علی قواتها في سوريا والعراق. وأيا يكن، ولأنه اجتماع ضرورة، فهو حتما لا يعني انتهاء المشاكل بين البلدين، ولا حتی إعادة العلاقات إلی مستوی سابق للتوتر الذي بلغ ذروته مع صعود ابن سلمان، بعد أن كان قد بدأ منذ أن ساندت تركيا «الإخوان المسلمين» خلال «الربيع العربي»، ودعمت بالخصوص الجماعات المسلحة في سوريا.

وهو اختبارٌ كان التعامل السعودي معه متقلبا، حيث اعتبرت المملكة في بادئ الأمر أن «الربيع العربي» يستهدفها بصورة من الصور، والتزمت جانب التحفظ في بداية أحداث سوريا، ثم عندما تبين أن الاضطرابات لن تتمدد في الخليج الفارسي، دعمت جماعات مسلحة موالية لها، مثل «جيش الإسلام»، إلا أنها تراجعت عن دعم المسلحين لاحقا، واقتربت من إعادة العلاقات مع النظام، ولكنها أيضا لم تفعل.

ولعل ما يشير إلی أن العلاقات لن تعود كما كانت، الانطباعات التي سيولدها اللقاء بين الرجلين في أنقرة، وهو يختلف عن لقائهما في جدة في نيسان الماضي، لأن جريمة قتل خاشقجي حصلت علی أرض تركيا، حيث كانت المحكمة تقاضي مقربين من ابن سلمان، وربما كانت ستصل إليه لو أن الظروف مؤاتية لإردوغان.

ولهذا، نصح ولي العهد السعودي أحد محبيه بعدم الذهاب إلی تركيا، لأن قلبه يقول له إن المضيف يمكن أن «يغدر» به. فهذه علاقة لا تقتصر علی عداوة بين رجلين، وإنما يثقل عليها أيضا التاريخ المليء بالدماء والحروب، حيث ما زال السعوديون يحفظون صراعهم مع العثمانيين، والذي استمر حتی أخرجهم عبد العزيز من نجد والحجاز، ليفتح طريق بناء دولته بحدودها الحالية.

لكن كل ذلك ينحی جانبا عند الحاجة إلی اللقاء؛ فمنطقة الخليج الفارسي الغنية جزء محوري من استراتيجية إردوغان لاجتذاب الاستثمارات يستأهل التنازل؛ إذ يراهن الرئيس التركي علی كسْب حصة كبری من فوائض الأموال الخليجية الناجمة عن الطفرة النفطية، مستندا إلی رغبة الخليجيين في السياحة إلی تركيا باعتبارها بلدا إسلاميا تتوفر لديه مقومات السياحة والإقامة الطويلة للعائلات الهاربة من قيظ المنطقة في الصيف، وهذا بدوره يفتح المجال لاستثمارات خليجية في تركيا في الشركات المعنية بالسياحة وأسواق العقارات والمصارف وغيرها، قد تعزز فرص إردوغان لتلافي مهانة خسارة الانتخابات.